الزهراء عليها السلام في بيت الزَّوجيَّة New Page 2 Nano Nano Made on Update- by MaxPack موقع بضعة الرسول ع

موقع بضعة الرسول ع

الزهراء عليها السلام في بيت الزَّوجيَّة

انتقلت الزهراء عليها السلام من بيت أبيها إلى بيت زوجها.. ولا تظنَّ أنها دخلت بيتاً غريباً، فقد ودّعت بيت النبوة واستقبلها بيت الولاية والإمامة، حين دخلت بيت علي بن أبي طالب قائد الجند ووزير الرسول صلّى الله عليه وآله ومشاوره الأول.

وقد تحمّلت فتاة الإسلام النموذجية في بيتها الجديد وظائف جسيمة ومسؤوليات عظيمة، إذ كان عليها أن ترسم معالم البيت الإسلامي النموذجي في الإسلام بوضوح، وتعطي الدروس العمليّة لنساء العالم أجمع عن الوفاء والحبّ والانسجام وحسن التبعّل وتربية الأبناء، والقيام بواجبات البيت و الاحتفاظ بدفئه وحرارته وندواته، فكانت القدوة الصالحة، وكانت حقيقة الدين النورانية، والإسلام المتحرك المشع المجسّد في الوسط النسوي والاجتماعي.

إدارة البيت:

بيت علي وفاطمة، هو البيت الوحيد الذي يضمّ بين جدرانه زوجاً وزوجة معصومين ومطهّرين منزّهين عن ارتكاب الذنوب واكتساب المآثم، ويتصفان بالفضيلة الأخلاقية والكمال الإنساني.

فعليّ عليه السلام نموذج الرجل الكامل في الإسلام، وفاطمة نموذج المرأة الكاملة في الإسلام.

[60]

علي بن أبي طالب كبر وترعرع منذ نعومة أظفاره على يدي الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، وكان محور اهتمامه صلّى الله عليه وآله، غذاه العلم والخلق والفضائل والكمالات، والزهراء تربت في أحضان النبيّ الطاهرة أيضاً.

استأنست أُذنهم الواعية منذ الصغر بالقرآن الكريم، وهم يسمعون النبيّ صلّى الله عليه وآله يرتلّه ليلاً ونهاراً وفي كلّ آن، واطلّوا على الغيب وارتشفوا العلوم والمعارف الإسلامية من معينها الأصيل ومنبعها العذب الزلال، ورأوا الإسلام يتحرك في شخصية رسول الله صلّى الله عليه وآله.. فكيف إذن لا تكون أسرتهم النموذج الأمثل للأسرة المسلمة؟!

كان بيت عليّ عليه السلام وفاطمة عليها السلام أروع نموذج في الصفاء والإخلاص والمودّة والرحمة، تعاونا فيه بوئام وخلوص على إدارة شؤون البيت وإنجاز أعماله. وقد تقاضيا في إبان حياتهما الزوجية إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله في الخدمة، فقضى على فاطمة عليها السلام بخدمة ما دون الباب... وقضى على علي عليه السلام بما خلفه... فقالت فاطمة عليها السلام: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله، بكفايتي رسول الله صلّى الله عليه وآله تحمّل رقاب الرجال (1) .

نعم فخرّيجة مدرسة الوحي ((فاطمة)) تعلم أنّ البيت معقل المرأة ومن المواقع المهمة في الإسلام، وإذا ما تخلّت عنه وسرحت في البيع والشراء، عجزت عن القيام بوظائف البيت وتربية الأبناء كما ينبغي، فتهلّل وجهها بالبشر وداخلها السرور حينما قضى الرسول صلّى الله عليه وآله على عليّ عليه السلام بأداء الأعمال الصعبة خارج البيت.

ولم تستنكف وحيدة الرسول ـ وهي بنت أعظم رجل في الإسلام والعالم ـ من العمل في البيت ، ولم تتنصل من أداء مهامّ البيت، حتى أنّ علياً عليه السلام رقّ لحالها وامتدح صنعها، وقال لرجل من بني سعد: ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة عليها السلام؟ إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله صلّى الله عليه وآله إليه، وإنّها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج 43 ص 81.

[61]

بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، واوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد. فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل فأتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حدّاثاً، فأستحت فأنصرفت.

قال علي عليه السلام: فعلم النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّها جاءت لحاجة. قال: فغدا علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم. فقلت: وعليكم السلام يا رسول الله، ادخل، فلم يعد أن جلس عندنا. فقال: يا فاطمة، ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

قال: فخشيت إن لم تجبه أن يقوم. فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله صلّى الله عليه وآله إنّها اسقت بالقربة حتى أثرت في صدرها، وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل.

قال صلّى الله عليه وآله: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين وأحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبّرا أربعاً وثلاثين. فذلك مائة باللسان وألف حسنة في الميزان.

فقالت: رضيت عن الله ورسوله صلّى الله عليه وآله (1) .

وفي رواية أخرى، أنّها لمّا ذكرت حالها وسألت جارية، بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحق، إنّ في المسجد أربعمائة رجل ما لهم طعام ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة، وإنّي لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية، وإنّي أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب عليه السلام يوم القيامة بين يدي الله ـ عزّ وجلّ ـ إذا طلب حقه منك، ثمّ علّمها صلاة التسبيح.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مضيت تريدين من رسول الله صلّى الله عليه وآله الدنيا

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج 43 ص 82 و 134.

[62]

فأعطانا الله ثواب الآخرة(1).

وفي ذات يوم دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على عليّ عليه السلام فوجده هو وفاطمة عليها السلام يطحنان في الجاروش، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله أيّكما أعيى؟ فقال عليّ عليه السلام: فاطمة، يا رسول الله. فقال لها: قومي يا بنيّة. فقامت، وجلس النبيّ صلّى الله عليه وآله موضعها مع عليّ عليه السلام فواساه في طحن الحبّ(2).

وروي عن جابر الأنصاري أنّه رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فأنزل الله (ولسوف يعطيك ربّك فترضى)(3).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز(4).

وعن أنس أنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: ما حبسك؟ قال: مررت بفاطمة تطحن والصبيّ يبكي، فقلت لها: إن شئت كفيتك الرحا وكفيتيني الصبيّ، وإن شئت كفيتك الصبيّ وكفيتيني الرحا. فقالت: أنا أرفق بابني منك. فذاك الذي حبسني. قال: فرحمتها، رحمك الله(5).

حسن التبعّل:

عاشت الزهراء عليها السلام في بيت ثاني أعظم شخصية إسلامية، رجل الشجاعة القوي، وقائد الجند، ووزير الرسول صلّى الله عليه وآله ومشاوره الخاص، وهي تعرف مكانته وأهميته، فلولا سيف علي ما قامت للدين قائمة.

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج 43 ص 85.
(2) بحار الأنوار ج 43 ص 50.
(3) بحار الأنوار ج 43 ص 86.
(4) بحار الأنوار ج 43 ص 151.
(5) ذخائر العقبى ص 51.

[63]

عاشت عليها السلام في بيت عليّ عليه السلام في ظروف حسّاسة وغاية في الخطورة، يوم كانت جيوش الإسلام في حالة إنذار دائم، وكانت تشتبك في حروب ضروس في كلّ عام، وقد اشترك الإمام عليّ عليه السلام فيها جميعاً أو في أكثرها.

والزهراء عليها السلام تعرف مسؤولياتها الثقيلة جيّداً، ودورها ونفوذها في التأثير على زوجها. فالمرأة لها نفوذ واسع على زوجها، ويمكنها أن توجّهه إلى، أيّ جهة تشاء. ومن الواضح أنّ سعادة الرجل وتعاسته، ورقيّه وتراجعه، وانشراحه وكآبته، ونجاحه وفشله في الحياة، لها علاقة وثيقة بالمرأة وتعاملها معه في داخل البيت.

والبيت هو الملجأ الذي يلجأ إليه الرجل فرارً من متاعب الحياة ومشاكل الدنيا ومصاعبها، ومصائب المجتمع وآلامه، ليستريح في ظلاله الوارفة، ويستعيد قواه ويتزوّد للقاءٍ جديد مع الحياة خارج البيت، ويتحمّل المهامّ والوظائف الملقاة على عاقته، والمرأة هي المسؤول الأول عن هذا المنتجع والمستراح. لهذا قالوا ـ كما عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ـ: جهاد المرأة حسن التبعّل(1).

والزهراء عليها السلام تعلم أنّ قائد الجيش الشجاع ـ علي عليه السلام ـ يدخل ساحة الوغى وينتصر على عدوّه إذا ما سكن واطمأن لزوجته، وسعد وفرغ باله في بيته. فكان الإمام ـ وهو سيّد المحاربين والمضحي من أجل الدين ـ يعود إلى البيت بجسد متعب مكدود، فيجد الدفء والحنان والمودّة في زوجته العزيزة، حين تضمد جراحه، وتغسل الدم عن جسده وثيابه، وتسأله عن أخبار الحرب.

الزهراء عليها السلام كانت تقوم بلّ هذه المهامّ، كبل كانت تغسل الدم عن ثياب النبيّ صلّى الله عليه وآله أحياناً.

وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام حينما عادا من غزوة أحد دفعا

ـــــــــــــــ

(1) الوافي كتاب النكاح ص 114.

[64]

بسيفيهما إلى فاطمة وقالا: اغسلي عنهما الدم(1).

كانت الزهراء عليها السلام تشجع زوجها، وتمتدح شجاعته وتضحيته، وتشد على يده لتعدّه للمعارك المقبلة، وتسكن جراحه وتمتص آلامه، وتسري عنه أتعابه. حتى قال الإمام عليه السلام: ولقد كنت أنظر إليها فتنجلي عني الغموم والأحزان بنظرتي إليها (2) .

ما خرجت فاطمة من بيتها بدون إذن زوجها، وما أسخطته يوماً، لأنّها تعلم أنّ الله لا يقبل عمل امرأة أسخطت زوجها حتى ترضيه (3) .

الزهراء عليها السلام.. لم تغضب زوجها يوماً، ولم تخرج من البيت بدون إذنه. وما كذبت في بيته وما خانته وما عصيت له أمراً حتى قال الإمام عليه السلام: فوالله ما أغضبتها ولا أكربتها من بعد ذلك حتى قبضها الله إليه، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً(4).

وذكر الإمام عليه السلام ذلك في لحظات عمر الزهراء عليها السلام الأخيرة حين قالت: يا ابن عم، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني، فقال: معاذ الله، أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً منه، والله جدّدت عليّ مصيبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون(5).

من أجل هذا أحرز الإمام عليه السلام كلّ هذا التوفيق و النجاح والانتصار في حياته.

هذه هي الزهراء عليها السلام، وأما عليّ عليه السلام فلا يتصورّ أنّه كان ـ والعياذ

ـــــــــــــــ

(1) سيرة ابن هشام ج 3 ص 106.
(2) المناقب للخوارزمي ص 256.
(3) الوافي كتاب النكاح ص 114.
(4) مناقب الخوارزمي ص 256.
(5) بحار الأنوار ج 34 ص 191.

[65]

بالله ـ من الرجال المغرورين، الذين ينتظر من زوجته كلّ شيء ويعقد عليها آلاف الآمال والتوقعات، ولا يهتّم بمسؤولياته وواجباته، ويتعامل معها معاملة الإماء والرقيق.

أبداً، لم يكن عليّ عليه السلام كأولئك،وإنّما كان وفيّا مخلصاً، يجازي الإحسان بالإحسان، ويعلم أنّه يقتحم الموت في ساحة المعركة، وزوجته تجاهد من ورائه في معقل البيت، وتقوم كلّ مهامّ البيت في غيابه، تطبخ الطعام، وتغسل الثياب، وتربّي الأطفال، وتؤمن احتياجات المنزل، رغم القحط والشحة والعسر في زمن الحرب، وتتألم لما تسمعه من أخبار الحرب الواصلة.

وخلاصة القول: إنّها كان تدير بيتاً لا تقل إدارته عن إدارة دولة كاملة.

والإمام عليّ عليه السلام يعلم أن الجندي المضحي الداخلي يحتاج إلى من يمسح بالحنان قلبه ويشجعه ويرفق به فكان إذا دخل البيت سأل عمّا جرى فيه أثناء غيابه، وعمّا تحمّلته الزهراء عليها السلام من المشقّة والعناء، وينثر محبّته وودّه فيزيل أتعاب الجسد المكدود، ويهدئ القلب المغموم بلطفه، ويواسيها ويعينها على الفقر والعسر والفاقة. ويدفعها بقوة للاستمرار في العمل والحياة. فالمرأة تحتاج الرجل كي يغدق عليها حبّه وحنانه ويشعرها بإخلاصه لها وتشجيعه إيّاها على ما تبذله من جهد وتقوم به من دور، وذلك عين ما يحتاجه الرجل من المرأة.

هكذا عاش هذان الزوجان النموذجيان في الإسلام وأدّيا واجباتهما، وضربا المثل الأعلى للأخلاق الإسلامية السامية.

كيف لا؟ وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله في ليلة الزفاف لعليّ عليه السلام: يا علي! نعم الزوجة زوجتك وقال لفاطمة: يا فاطمة نعم البعل بعلك (1)

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج 43 ص 132 و 117.

[66]

وقال صلّى الله عليه وآله: لولا عليّ لم يكن لفاطمة كفؤ(1).

ورودت فاطمة عليها السلام عن أبيها أنّه قال: خياركم ألينكم مناكبه وأكرمهم لنسائهم(2).

وقال علي عليه السلام صبيحة عرسه، حينما سأله النبيّ صلّى الله عليه وآله كيف وجدت أهلك؟ قال: نِعْمَ العون على طاعة الله(3).

تربية الأطفال:

تربية الأطفال من الوظائف الحسّاسة والمهامّ الثقيلة التي ألقيت على عاتق الزهراء عليها السلام حيث رزقت عليها السلام خمسة أطفال هم: الحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم، ومحسن ـ الذي أسقط وهو جنين في بطن أمّه ـ وبقي لها ولدان وبنتان، وقد قدّر الله سبحانه أن يكون نسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وذريته من فاطمة عليها السلام.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ الله جعل ذرية كلّ نبيّ من صلبه خاصة، وجعل ذريتي من صلبي و من صلب عليّ بن أبي طالب(4).

لهذا تحمّلت فاطمة عليها السلام مسؤولية التربية، وقد تبدو لفظة ((تربية الأطفال)) مختصرة صغيرة ليس فيها كثير عناء، إلاّ أنّ معناها عميق واسع وحسّاس جدّاً، فالتربية ليست مجرد أن يوفر الأب الطعام والشراب واللباس ويسعى للحصول على لقمة العيش، بينما تهيء الأم الطعام وتغسل الملابس، وتراعي نظافة الطفل وما شاكل. وأنّ لا مسؤولية أخرى سوى هذه.

لا أبداً، فالإسلام لا يكتفي بهذا الحدّ، وإنّما يجعل مسؤولية الأبوين

ـــــــــــــــ

(1) كشف الغمة ج 2 ص 98.
(2) دلائل الإمام ص 7.
(3) بحار الأنوار ج 43 ص 117.
(4) مناقب ابن شهر آشوب ج 3 ص 387.

[67]

أكبر بكثير في تربية الأبناء، حيث إن شخصية الطفل المعصوم ـ في حاضره ومستقبله مرهونة بتربية أبويه ومراقبتهما ومتابعتهما له ـ وكل صغيرة وكبير من حركاتهم وسكناتهم وأفعالهم وسلوكهم ـ كأبوين ـ تؤثّر في روح الطفل الشفّافَة، فهو يقلّد أبويه، ويعكس سلوكهما تماماً كالمرآة.

من هنا أصبحت مسؤولية الأبوين مراقبة أطفالهم بدقّة، والإعداد لمستقبلهم بجدّية، وحماية فطرتهم السلمية من التلوّث ـ لأنّ الله خلقهم على فطرة الإيمان.

والزهراء عليها السلام ربيبة الوحي التي كبرت في أحضان النبوة، تعرف مناهج التربية الإسلامية، ولا تغفل عنها و عن تأثيرها في الطفل، ابتداء من تغذيته من لبن أمّه وقبلتها التي تطبعها على وجهه، إلى سلوكها وأفعالها وأقوالها.

والزهراء عليها السلام تعلم أنّ عليها تربية أئمة تقدّمهم للمجتمع نماذج حية للإسلام، وصوراً متحركةً للقرآن الكريم وحقائقه ومعارفه. ومن الواضح أنّ هذا العمل ليس سهلاً يسيراً.

الزهراء عليها السلام تعلم أن عليها أن تربّي مثل الحسين عليه السلام الذي يضحي بنفسه وبكلّ أهله وأصحابه وأعزّائه في سبيل الله، ومن أجل الدفاع عن الدين، ومقارعة الظلم والظالمين، ليروي بدمه شجرة الإسلام.

وتربّي نساء مثل زينب وأمّ كلثوم، وتعلمهنّ في مدرسة البيت دروس التضحية والفداء والصمود أمام الظالمين، حتى لا يعرن ولا يخضعن للظالم وقوّته، ويقلن الحق، وتعلمهن كيف يعرضن مظلومية الحسين على الأسماع، فيبكي العدوّ والمحبّ في ديوان بني أمية، تعلمهن كيف يقفن تلك المواقف المشرّفة، ويخطبن على الملأ بشجاعة، ويفضحن مخططات الأمويين وجرائمهم، ويحلن دون تحقيق الظالم لأهدافه.

وتربّي عليه السلام مثل الحسن عليه السلام ليعضّ على قلبه في المواقف الحرجة، ويختار السكوت ويصالح معاوية، ويفهم العالم أنّ الإسلام يرجّح الصلح

[68]

على الحرب، فيسقط ما في يد معاوية، ويفشل ريحه ويميت مؤامراته، ويكشف تضليله للناس، وتنتهي اللعبة التي أراد معاوية أن تمرّ على المسلمين.

من هذه النماذج الرسالية ـ الخارقة للعادة ـ تتجلى عظمة الزهراء عليها السلام، وقوّتها الروحية الفريدة.

نعم، لم تكن الزهراء عليها السلام من تلك النساء القاصرات الجاهلات ـ والعياذ بالله ـ لتتصور البيت بمحيطه الصغير الضيّق، وإنّما كانت تحسب محيط البيت محيطاً واسعاً شاسعاً مهمّاً، باعتباره مصنعاً لإنتاج الإنسان الرسالي، وجامعة لتعليم دروس الحياة ومعسكراً لتلقّي تمارين التضحية والفداء التي سيطبقها غداً في المجتمع الواسع خارج البيت.

الزهراء عليها السلام لم تشعر بالنقص وعقدة الدناءة. لأنّها امرأة، فالمرأة ـ عندها ـ وجود مقدّس له مكانته العالية ومقامه الشامخ وقد فَوَّضَ الله إليها أصعب مسؤولية وأثقل مهمة في الحياة.