فاطمة عليها السلام بعد وفاة أبيها New Page 2 Nano Nano Made on Update- by MaxPack موقع بضعة الرسول ع

موقع بضعة الرسول ع

فاطمة عليها السلام بعد وفاة أبيها

في السنة العاشرة من الهجرة دعا النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله عامة المسلمين لأداء مناسك الحج، وحج بهم حجة الوداع، وعلمهم أحكام الحج ومناسكه. وعند العودة توقف الركب عند غدير خم، وصعد النبي صلّى الله عليه وآله على منبر من أحداج الإبل، ونادى بصوت عال: من كنت مولاه فعلي مولاه، ونصب علياً صلّى الله عليه وآله لخلافته والولاية من بعده، ثم أمر المسلمين، فبايعوا علياً وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وتفرقوا في بلدانهم، وعاد النبي صلّى الله عليه وآله إلى المدينة وبقي فيها وقد تغير حاله، وبانت أمارات الموت عليه، وضعفت صحته، فكان يتهيأ للموت ويوصي بأهل بيته في كل مناسبة، ويزور البقيع ويستغفر للموتى.

رأت فاطمة عليها السلام في منامها ـ بعد حجة الوداع ـ أنها كانت تقرأ القرآن وفجأة وقع القرآن من يدها واختفى، فاستيقظت مرعوبة، وقصت الرؤيا على أبيها صلّى الله عليه وآله.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنا ذلك القرآن ـ يا نور عيني ـ وسرعان ما سأختفي عن الأنظار(1).

ثم أخذ المرض يشتد به صلّى الله عليه وآله فجهز النبي جيشاً بإمرة أسامة بن زيد،

ـــــــــــــــ

(1) رياحين الشريعة ج 1 ص 239..

[114]

وأمرهم بالمسير إلى الروم ودعا الناس للاشتراك بهذا البعث، ونص على بعضهم بالإسم ليخلي الساحة من المنافقين والمتربصين، ويفوت الفرصة على المعارضين لخلافة علي عليه السلام.

واشتد مرض النبي صلّى الله عليه وآله أكثر فأكثر، وهو مسجى على فراش المرض، والزهراء يشتد وجدها على أبيها، فتارة تحدق في وجهه الشاحب وتذرف الدموع الساخنة، وأخرى تدعو له بالسلامة: إلهي .. هذا أبي الذي ما أوذي نبي مثل ما أوذي ليغرس شجرة الإسلام، ويثبت جذورها في الأرض، وقد لاحت في الأفق آيات النصر وإرهاصات الفتح الشامل، وكان أملي أن تعلو راية الإسلام خفاقة، ويفنى الشرك والظلم والجور عن وجه الأرض على يديه، لكنه الآن ـ ووا أسفها ـ قد اشتد مرضه .. إلهي .. سلمه، واشفه، فمنك الشفاء ومنك السلامة.

ثقل المرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى أغمي عليه، فلما أفاق وجد أبا بكر وعمر وآخرين عنده، فقال صلّى الله عليه وآله: ألم آمركم بالمسير في جيش أسامة؟ فاعتذروا، إلا أن النبي صلّى الله عليه وآله يعلم ما تكن صدورهم ـ وما يبيتون ـ من بقائهم في المدينة لينزوا على مقام الخلافة.

فقال صلّى الله عليه وآله: ائتوني بدواة وبيضاء، أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً.

فأسرع بعضهم لإجابة طلب الرسول صلّى الله عليه وآله فمنعه عمر وقال: إن الرجل ليهجر، قد غلبه مرضه(1).

والزهراء عليها السلام ترى وتسمع ذلك فيربو همها ويزداد غمها، فقد كشر النفاق من الآن وطفح على وجوه القوم، وأبوها لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولا يريد سوى خير المسلمين ومصلحتهم، فما لهؤلاء القوم يعاندون ويعصون ولا يكادون يفقهون حديثاً .؟! …

ـــــــــــــــ

(1) الكامل في التاريخ ج 2 ص 217 البخاري ج 3 ص 1259..

[115]

يبدو أن المستقبل ينذر بالخطر، والقوم صمموا على تضييع أتعاب نبيهم، والله أحكم الحاكمين.

ابتسامة مدهشة:

لما ثقل واشتد حال رسول الله صلّى الله عليه وآله وحضره الموت، أخذ علي عليه السلام رأسه الشريف فوضعه في حجره عليه السلام فأغمي عليه فكانت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ففتح رسول الله صلّى الله عليه وآله عينيه وقال بصوت ضعيف: بنيّة قولي (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً)(1).

فبكت طويلاً، فأومأ إليها بالدنوّ منه، فأسرّ إليها شيئاً تهلّل وجهها له، فقيل لفاطمة عليها السلام: ما الذي أسرّ إليك رسول الله صلّى الله عليه وآله فسرّى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته؟ قالت: إنّه أخبرني أنّني أول أهل بيته لحوقاً به، وأنّه لن تطول المدّة لي بعده حتى أدركه، فسرى ذلك عنّي(2).

عن أنس قال: جاءت فاطمة معها الحسن والحسين عليه السلام إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله في المرض الذي قبض فيه فانكبت عليه فاطمة وألصقت صدرها بصدره وجعلت تبكي، فقال لها: النبيّ صلّى الله عليه وآله: يا فاطمة لا تبكي عليّ ولا تلطمي ولا تخمشي عليّ خدّاً ولا تجزي عليَّ شعراً، ولا تدعي بالويل والثبور، وتعزّي بعزاء الله. ثمّ بكى وقال: اللّهم أنت خليفتي في أهل بيتي، اللّهم هؤلاء وديعتي عندك وعند المؤمنين.

ـــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران آية 144.
(2) بحار ج 22 ص 470، الكامل في التاريخ ج 2 ص 219، إرشاد المفيد ص 88 طبقات ابن سعد ج 2 القسم 2 ص 39 ـ 40 صحيح مسلم ج 4 ص 1095..

[116]

بوح الأسرار:

عن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السلام: لمّا كانت الليلة التي قبض النبيّ في صبيحتها، دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام وأغلق عليه وعليهم الباب وقال: يا فاطمة، وأدناها منه فناجاها من الليل طويلاً، فلمّا طال ذلك خرج عليّ ومعه الحسن والحسين وأقاموا بالباب والناس خلف الباب، ونساء النبيّ ينظرن إلى علي عليه السلام ومعه ابناه.

فقالت عائشة: لأمر مّا أخرجك منه رسول الله وخلا بابنته عنك في هذه الساعة؟

فقال لها عليّ عليه السلام: قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له، وهو بعض ما كنتِ فيه وأبوك وصاحباه ـ ممّا قد سمّاه ـ.

فوجمت أن تردّ عليه كلمة.

قال عليّ: فما لبثت أن نادتني فاطمة عليها السلام فدخلت على النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو يجود بنفسه، فقال لي: ما يبكيك يا عليّ؟ ليس هذا أوان بكاء فقد حان الفراق بيني وبينك، فاستودعك الله يا أخي، فقد اختار لي ربّي ما عنده، وإنّما بكائي وغمّي وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي، فقد أجمع القوم على ظلمكم، وقد استودعتكم الله وقبلكم مني وديعة، إنّي قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء، وأمرتها أن تلقيها إليك فنفّذها، فهي الصادقة الصدوقة.

ثمّ ضمّها إليه وقبّل رأسها وقال: فداك أبوك يا فاطمة. فعلا صوتها بالبكاء، ثم ضمّها إليه وقال: أما والله لينتقمّن الله ربّي، وليغضبن لغضبك، فالويل ثم الويل للظالمين. ثم بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله.

قال علي عليه السلام: فوالله لقد حسبت قطعة مني ذهبت لبكائه، حتى هملت عيناه مثل المطر، حتى بلّت دموعه لحيته وملاءة كانت عليه، وهو يلتزم فاطمة لا يفارقها، ورأسه على صدري وأنا مسنده، والحسن والحسين يقبّلان قدميه ويبكيان بأعلى أصواتهما.

[117]

قال عليّ: فلو قلت إن جبرئيل في البيت، لصدقت، لأنّي كنت أسمع بكاءً ونغمة لا أعرفها، وكنت أعلم أنّها أصوات الملائكة لا شكّ فيها، لأن جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبيّ صلّى الله عليه وآله.

ولقد رأيت بكاءً منها أحسب أن السماوات والأرضين بكت لها.

ثمّ قال لها: يا بنيّة، الله خليفتي عليكم وهو خير خليفة، والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة، والسماوات والأرضون وما فيهما، يا فاطمة، والذي بعثني بالحق، لقد حرمت الجنة على الخلائق حتى أدخلها، وإنّك لأول خلق الله يدخلها بعدي، كاسية حالية ناعمة، يا فاطمه هنيئاً لك. والذي بعثني بالحق، إنّ جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا صعق، فينادى إليها أن: يا جهنم، يقول لك الجبّار: اسكني بعزّي، واستقرّي، حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله إلى الجنان لا يغشاها قتر ولا ذلّة. والذي بعثني بالحق ليدخلّن حسن وحسين: حسن عن يمينك، وحسين عن يسارك، ولتشرفنّ من أعلى الجنان بين يدي الله في المقام الشريف، ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب عليه السلام.

والذي بعثني بالحق، لأقومن بخصومة أعدائك، وليندمنّ قوم أخذوا حقّك وقطعوا مودّتك وكذبوا عليّ، وليختلجن دوني، فأقول: أمتي، أمتي، فيقال: إنّهم بدّلوا بعدك وصاروا إلى السعير(1).

فاطمة بعد أبيها:

رأس الرسول صلّى الله عليه وآله في حجر علي عليه السلام ، و الحسن والحسين وأمّهما ينظرون في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله ويذرفون الدموع. وفجأة أغمض الرسول صلّى الله عليه وآله عينيه، وسكنت أنفاسه الطاهرة، وحلّقت روحه الشريفة إلى الحياة الأبدية السرمدية عند مليك مقتدر. فانهالت هموم الدنيا ومصائب

ـــــــــــــــ

(1) البحار ج 22 ص 490..

[118]

الدهر على بضعة النبي صلّى الله عليه وآله الصدّيقة فاطمة عليها السلام التي قضت عمرها بالآلام والهموم والغصص. وكلّ ما كانت تجد فيه الأمل والراحة هو وجود أبيها وظلاله الوارفة، وقد انهار صرح الآمال بعد هذا الحادث المدّ الجلل.

وعلى حين غفلة ـ والزهراء عليها السلام غرقى في الأحزان لفقد الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، وعلي عليه السلام مشغول بتجهيزه ـ فإذا بالخبر أنّ جماعة من المسلمين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله!!

ولم تنقضي ساعة حتى جاء الخبر ثانية: إنّهم انتخبوا أبا بكر خليفة على المسلمين!!

هزّ الخبر فاطمة وعليّاً ـ عليهما السلام ـ، وهم في غمرة الغموم والغصص والبكاء على رسول الله صلّى الله عليه وآله ..

سبحان الله .. ما عدا مما بدا .. أليس الخليفة هو علي بن أبي طالب بنصّ رسول الله صلّى الله عليه وآله؟! كم مرة أوصى به منذ اليوم الأول حين دعا فيه عشيرته (وأنذر عشيرتك الأقربين) إلى ساعة وفاته صلّى الله عليه وآله؟!!..

ألم ينصبه خليفة للمسلمين في غدير خم قبل شهور فقط من وفاته؟!

وهل ينكر أحد جهاد عليّ وتضحياته وسابقته في الإسلام، وعلمه وهو الذي غذاه النبيّ صلّى الله عليه وآله بعلوم النبوّة منذ نعومة أظفاره ليكمل المسير إلى أهدافه المقدّسة بعده؟!

الإسلام بحاجة إلى قائد معصوم، لا يزلّ عن جادة الصواب، ولا ينحرف يميناً وشمالاً.

آه .. ها قد وقع المسلمون في منزلق خطير وغلط يجر إلى الهاوية..

ربّاه .. كم تحمّل النبيّ صلّى الله عليه وآله، وضحّى عليّ عليه السلام من أجل الإسلام في أحلك الظروف وأخطر المواقف، وكم مرّة اقتحم عليّ فم الموت وخاطر بحياته ..

[119]

ربّاه .. كما كابدتُ جوعاً وحرماناً، وهاجرتُ من الأرض والوطن، كلّ ذلك في سبيلك، ومن أجل رفع راية الحق ونشر معالم التوحيد، والدفاع عن المظلومين، ومقارعة الظلم والجور والظالمين.

يا لله .. ولهؤلاء .. هلاّ يعلمون أنّ علياً ربيب الوحي والنبوة المعصوم، الذي استقى الإسلام من محمد صلّى الله عليه وآله، لو أصبح قائداً للمسلمين لساق المجتمع الإسلامي الفتيّ إلى السعادة والرفاه، ولقادهم أحكم وأقوم قيادة، ولحملهم على المحجّة البيضاء.

نعم .. لعلّ هذه الخواطر كانت تجيش في خلد فاطمة عليها السلام وتلّح على ذهنها، وتحاول اختطاف الصبر منها عليها السلام.

ثلاثة أشهر من المواجهة:

لا نود الدخول في سرد قصة السقيفة وانتخاب أبي بكر، لأنّها قصة طويلة ذات شجون، تجرّنا خارج موضوع هذا الكتاب.

وخلاصتها: لمّا انتهى علي وفاطمة عليها السلام من تجهيز النبيّ صلّى الله عليه وآله ودفنه، واجها قضية تمّ نسجها وأحبك أمرها، وانتهى كل شيء فيها، حيث بويع أبو بكر ونصب للخلافة.

وكان الإمام عليه السلام أمام خيارات ثلاثة:

الأول: أن يقدم على حركة حدّية ثورية، ويعلن الحرب على أبي بكر رسميّاً، ويدعو الناس إليها، ويدفعهم نحوها.

وهذا غير ممكن، لأنّه يعني إقحام المجتمع الإسلامي في معركة غير محموده العواقب، تؤدّي إلى انتفاع الانتهازيين والوصوليين من الفرصة، واستحواذ أعداء الإسلام وقوّة شوكتهم، وهم يتربّصون الدوائر بالإسلام والمسلمين، وبالنتيجة اقتلاح جذور الإسلام الفتيّ.

الثاني: أن يحافظ على وجوده ومنافعه الشخصية ومصالحه المستقبلية ـ

[120]

بعد أن انتهى كلّ شيء ـ فيبايع ـ دون ممانعة ـ أبا بكر، وعندئذٍ تبقى مصالحه الشخصية فى أمان، وينال المكانة والتكريم والاحترام لدى الجهاز الحاكم.

وهذا غير ممكن أيضاً، لأنّه يعني إمضاءه عليه السلام لبيعة أبي بكر وولايته ولعمل المسلمين أيضاً، مما يؤدّي إلى انحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها الأصلي ومعناها الحقيقي إلى الأبد، وتبدد الجهود والتضحيات التي بذلها النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام من أجل إرساء قواعد الإسلام وتحكيم أصول الخلافة الشرعية.

هذا بالإضافة إلى أنّ ما سيفعله عمر وأبو بكر سيوضع في حساب الإسلام القويم ـ باعتبارهما ليسا معصومين وصدور الخطأ والذنب ومخالفة الشريعة منهما محتمل جدّاً.

الثالث: أن يسلك عليه السلام سبيلاً معتدلاً يحفظ بيضة الإسلام ويصون المسلمين، وإن كانت ثماره تأتي متأخرة على المدى البعيد.

فعزم هو والزهراء عليها السلام على خوض معركة واسعة ـ يشتدّ أوارها ـ بهدوء وحكمة، تؤمن سلامة الإسلام وعدم انهدام أركانه، فكانت المواجهة على مراحل:

المرحلة الأولى:

أخذ علي وفاطمة بيدي الحسن والحسين عليه السلام وطافوا على بيوت المدينة ورجالها وأشرافها، ودعوهم إلى نصرتهم وذكّروهم بوصايا النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله (1)، وفاطمة تقول:

أيّها الناس، ألم ينصب أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله علياً خليفة عليكم من بعده؟ أنسيتم جهاده وتضحياته؟! لو أطعتم ما أوصى به النبي، وسلمتم زمام أموركم لعلي، لهداكم إلى سواء الصراط، وسار بكم على المحجة البيضاء، وبلغ بكم غايات رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ـــــــــــــــ

(1) الإمامة والسياسة ج 1 ص 12..

[121]

أيّها الناس .. ألم يقل أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي؟

أيّها الناس .. أتتركونا لوحدنا وتتقاعسون عن نصرتنا؟!

وهكذا دأبوا على دعوة الناس إلى الحق ببيانات شتّى لعلّهم يرشدون ويندمون، وليعيدوا الخلافة إلى أهلها وتعود الأمور إلى نصابها.

وبالفعل استطاعوا أن يكسبوا من خلال هذه الحملة الاعلامية الواسعة جماعة وقعت تحت تأثير الحقيقة، فواعدوهم النصرة، وما وفى بالوعد إلاّ القليل.

فكانت ثمار هذه المرحلة ـ التي أعلنوا فيها مخالفتهم للنظام الحاكم ولشخص أبي بكر ـ ميل بعض القلوب نحو البضعة الطاهرة وزوجها وانجلاء الحقيقة نسبياً للأمّة، لا غير.

المرحلة الثانية:

رفض الإمام علي عليه السلام البيعة لأبي بكر، وأعلن سخطه على النظام الحاكم، ليتّضح للعالم أنّ هذه الحكومة التي أعرض عنها ـ الرجل الأول في الإسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ علي بن أبي طالب عليه السلام ـ لا توافق الخلافة الإسلامية جذريّاً.

وكذلك فعلت فاطمة عليها السلام ليعلم الناس أنّ بنت نبيّهم لا ترضى عن هذه الخلافة.

وبدأ الإمام عليه السلام جهاداً سلبياً ضد الغاصبين، فاشتغل بجمع القرآن وتأليفه، وأصبح جليس داره.

فقال عمر لأبي بكر: يا هذا، إنّ الناس قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته، فابعث إليه، فبعث إليه قنفذاً، فقال له: يا قنفذ، انطلق إلى

[122]

علي فقل له: أجب خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فبعثاه مراراً وأبى علي عليه السلام أن يأتيهم، فوثب عمر غضبان ونادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي وفاطمة عليها السلام، وفاطمة قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها لوفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله فأقبل عمر حتى ضرب الباب ثم نادى يا ابن أبي طالب! افتح الباب، فقالت فاطمة: يا عمر ما لنا ولك، لا تدعنا وما نحن فيه!

قال: افتحي الباب، وإلاّ أحرقنا عليكم(1).

فقالت: يا عمر، أما تتقي الله؟ تدخل على بيتي وتهجم على داري.

فأبى أن ينصرف. ثم دعا عمر بالنار(2). فانفتح الباب وأراد عمر أن يدخل البيت. فاستقبلته فاطمة عليها السلام ووقفت أمامه بشجاعة واستبسلت(3). وصاحت: يا أبتاه! يا رسول الله! لعلّها تحرّك في الناس ضمائرهم وتهيّج.

ـــــــــــــــ

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 2 ص 56 وج 6 ص 48..
(2) إثبات الوصية ص 110 البحار ج 43 ص 197 الإمامة والسياسة ج 1 ص 12..
(3) البحار ج 43 ص 197. اتفقت المصادر الشيعية والسنية على أنّ أزلام أبي بكر هجموا على دار الزهراء عليها السلام، ودعا عمر بالحطب ليحرق عليها الدار، فقيل له: إنّ في الدار فاطمة، فقال: وإن.
ذكر ذلك أبو الفداء، وابن أبي الحديد، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة، والبلاذي في أنساب الأشراف واليعقوبي، وغيرهم.
وقد أظهر أبو بكر نفسه ندمه ـ حين الوفاة ـ من هذا الهجوم.
قال ابن أبي الحديد في ج 14 ص 192: إنّ زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله تجهّزت للحوق بأبيها، وخرجت على بعير وهي في الهودج، فخرج في طلبها هبّار بن الأسود فرّوعها بالرمح ـ وهي في الهودج ـ وكانت حاملاً، فلمّا رجعت طرحت ما في بطنها، فلذلك أباح رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم فتح مكة دم هبّار بن الأسود.
قلت ـ والكلام لابن أبي الحديد ـ: وهذا الخبر أيضاً قرأته على النقيب أبي جعفر ـ فقال: إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله أباح دم هبّار بن الأسود لأنّه روّع زينب فألقت ذا بطنها، فظاهر الحال أنّه لو كان حيّاً لأباح دم من روّع فاطمة حتّى ألقت ذا بطنها.
ولكنّ المصادر السنية سكتت عمّا وقع بعد تهديد فاطمة عليها السلام، إلاّ أنّ المصادر الشيعية والروايات ذكرت أنّهم أحرقوا الباب، وضربوا بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وأسقطوا جنينها.

[123]

ذكرياتهم، إلاّ أنّ الأوغاد ما رعوها، كيف وقلوبهم كالحجارة بل أشدّ قسوة.

فرُفِع السيف وهو في غمده ووجأ به جنبها، فصرخت، فرُفِع بسوط وضُرِب عضدها حتى اسوّد عضدها (1) ثم دخلوا على علي عليه السلام فأخذوه. فمانعتهم فاطمة عليها السلام وحالت بينه وبينهم عند الباب، فضربها قنفذ بالسوط (2) فألجأها إلى عضادة بيتها ودفعها فكسر ضلعها من جنبها فألقت جنيناً من بطنها(3).

ثم أخذوا عليّاً إلى المسجد، فهبّت الزهراء عليها السلام لنصرة الحق والدفاع عن ابن عمها، وخرجت على أثره كسيرة الضلع منهكة الجسد، شاحبة الوجه، فلمّا انتهت إلى القبر قالت: خلّوا عن ابن عمّي، فوالذي بعث محمداً بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص رسول الله صلّى الله عليه وآله على رأسي ولأصرخنّ إلى الله.

وكادت تقلب نظام الحكم يومئذٍ بدعائها واستغاثتها، فلمّا أحسّ علي عليه السلام بالخطر نادى سلمان وقال له: أدرك بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله واصرفها عن الدعاء. فجاءها سلمان وقال: يا سيّدتي ومولاتي، إنّ الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة.

فقالت: يا سلمان، دعني أنتقم من هؤلاء الظالمين.

قال: إنّ علياً أمرني أن أصرفك عن الدعاء.

قالت: الآن وقد أمر علي فسمعاً وطاعة، أصبر.

وقيل: إنّ فاطمة أخذت بيد علي وعادا إلى البيت(4).

ـــــــــــــــ

(1) البحار ج 43 ص 197..
(2) البحار ج 43 ص 198..
(3) البحار ج 43 ص 198..
(4) البحار ج 43 ص 47، روضة الكافي ص 199..