أم أبيها New Page 2 Nano Nano Made on Update- by MaxPack موقع بضعة الرسول ع

موقع بضعة الرسول ع

أم أبيها

فوجئت فاطمة ذات يوم بموت أبي طالب عم أبيها وزعيم قريش وعميد بني هاشم (1)

وشعرت بجناح من أجنحة أبيها يتهشّم وركن من أركانه يتهدّم، وأقبل أبوها بحناحه المهيض وقد اعتصر الألم قلبه وهدّ الشجى فؤاده وبدا الحزن الشديد على وجهه لقد فقد الحامي القويّ والسند المتين.

ورأت فاطمة أباها يبكي لأول مرة في حياتها يبكي عمه أبا طالب بحرقة بالغة والدموع تنهمر غزيرة من عينيه وتسيل على خديه، فأقبلت إلى أبيها جزعة قلقة تمسح دموعه بيديها البضّتين وتواسيه من أعماق قلبها بكل ما لديها من حبّ وحنان حتى هدأت عبرته وخفّت دمعته صلى الله عليه وآله وسلم.

وما هي إلا أيام قليلة حتى حلّت المحنة الأخرى ونزلت مصيبة الموت بزوجة رسول الله خديجة بنت خويلد ولمّا تندمل الجراح بعد، وهيض للنبي جناح آخر ولا يزال جناحه الأول ضعيفاً.

وبكى رسول الله ركنه الثاني بعد عمّه أبي طالب وبكى معه جيمع من في البيت، واندفعت فاطمة بحزن شديد وأسىً بالغ إلى حضن أبيها تلوذ به وتسأله والدموع تنهمر من مقلتيها كالمطر:

ـ أبي أين أمي؟!.

 ياله من سؤال محرج في لحظة صعبة من مأساة مفجعة!!.

 ويحدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجه ابنته الملتاعة لفقد أمها الحبيبة ويمسح دموعها وإنَّ دموعه لتجري على وجنتيه ويقول لها بلسان هادئ وصوت رزين:

ـ بنّية لقد ذهبت أمك إلى الجنّة ولقد أخبرني أخي جبرائيل أنها هناك في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب (2)!.

إذن لقد تيتّمت فاطمة

لقد ماتت أمها وأصبحت بلا أم

ووجدت فاطمة نفسها ـ وهي ابنة الثماني سنوات ـ في محنة لم تمر بعد بأقسى منها.

ما أسرع ما عوجلت فاطمة بالمحن وما أقسى أن تفقد أمها وهي بعد في تلك السن المبكرة!

ألم ينفطر قلبها لفقد أمها الحبيبة؟!

ألم يهزّ الألم والحزن كيانها الضعيف؟!

وكادت فاطمة تتهاوى إلى الأرض لولا أن حانت منها التفاتة إلى أبيها فاذا الدموع تسحّ من عينيه سحّاً فاستجمعت قواها وتمالكت نفسها ووطّدت العزم على الصبر!

أتتلقّى فاطمة العزاء بموت أمها التي لا مثيل لها في الأمّهات؟! أم تقوم فتعزّي أباها الذي لا مثيل له في الآباء بزوجه التي لا مثيل لها في الأزواج؟!

ولم تتردد فاطمة فسرعان ما اختارت أن تكون المعزّي وأن تكون السُّلْوَةَ لأبيها المفجوع بعمّه وزوجه، وإنها لتعلم يقيناً أن أباها لم يفقد في خديجة الزوج المثالية فقط وإنما فقد فيها كذلك الناصر والمحامي والمكافح عنه مع عمّه وبعد عمّه أبي طالب وفقد فيها المؤازر والمشجّع والمواسي فقد فيها اليد الطولى والحنون والصدر الدافئ والفؤاد الصابر، فقد فيها الكلمة الحلوة والرأي السديد الناصح!.

وانطلقت فاطمة إلى أبيها مرة أخرى لا لتسأله كما سالته من قبل عن أمها فتثور أحزانه وأشجانه وإنما انطلقت هذه المرة تهدهد عنه الحزن وتمسح عن خديه الدموع وتمنحه الدفء والحنان والحبّ علّ ذلك يعوّض عنه بعض الذي فقده في أمها خديجة. وهكذا كانت فاطمة أم أبيها وابنته في آن معاً (3).

وسيّان في عمود النور المتطاول برأسه في عنان السماء أن تكون فاطمة بنتاً لأبيها وأمّاً له، بنتاً له في النسب وأمّاً له في الرعاية والحدب، بنتاً له في التربية والاقتداء وأمّاً له في الحياطة والاعتناء.

وهكذا بدأت مرحلة جديدة من عمر فاطمة، ورسمت لها يد العناية الإلهية منذ اليوم أن يكون لها مع أبيها دور جديد أكبر بكثير من عمرها، فلعلّها تستطيع أن تكون خديجته ولعل ابن عمّه عليّاً يكون له كعمّه أبي طالب.

وكم وجدت فاطمة نفسها بعد ذلك وهي تنزع الأشواك عن قدمي أبيها وتمسح الدماء عن رجليه وتغسل عن يديه ووجهه التراب وتزيل عن ظهره وصدره وذراعيه الأوحال والأوشاب!.

انتصفت السنة العاشرة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقاربت فاطمة أن تتم التاسعة من عمرها المبارك، وفيما هي في البيت عصر ذلك اليوم القائظ يدلف أبوها إلى البيت متعباً منهكاً وهو يصيح بجيرانه:

ـ أيَّ جوار لي منكم يا بني عبد مناف! ما أشد ما لقيت من قريش بعد فقدك يا أبا طالب!

وتخفّ فاطمة إلى أبيها تستطلعه الخبر فإذا على رأسه أقذار وأتربة وأشواك فتبادر فاطمة فتزيلها عنه بيديها الناعمتين وهي تبكي لما يصيب أباها من أذى قريش وعدوانها وتخاذل جيرانه وذوي قرباه من بني عبد مناف. فيرقّ لها القلب الكبير ويزول غضبه وتهدأ سورته ويطيب خاطر ابنته فاطمة:

ـ لا تبكِ يا ابنتي فإن الله مانع أباك.

ولم يكن نصيب فاطمة من هذا الصراع الدائر أن تكون البنت المواسية لأبيها فقط، فإن سفاهة قريش لا تحدّها حدود وسلوك المشركين لا ترسمه أخلاق ولا قيم، ولذلك فقد امتدّ أذاهم لفاطمة نفسها، فها هي ذات يوم بجمع من مشركي قريش فيهم أبو جهل وعمرو بن هشام فإذا بها تسمعه يسبّ أباها أفحش سباب ويشتمه أقذع شتم فلا تملك إلا أن تردع أبا جهل بكلمات من بيان النبوة النظيف وفصاحة بني هاشم العالية فينتفض أبو جهل لكرامته المهانة، وينقضّ على هذه الصغيرة التي

تتطاول على مقامه العالي بين قومه المتحلّقين به فيصفعها على وجهها بصلف وجلافة وهو يتابع سبابه وشتائمه.

وتنطلق فاطمة صارخة باكية وقد انهمرت الدموع من عينيها وسالت على خديها، ويمر أبو سفيان فيسمع بكاءها ويرى الدموع على خديها فيستوقفها ويسألها:

ـ ما يبكيك يا بنت محمد؟!

وإذْ يعرف منها الخبر يغضب أبو سفيان لهذا الاعتداء الصارخ من أبي جهل وهذا التطاول الأحمق على فتاة صغيرة من أعزّ بيت في قريش يُعتبر أبو سفيان من زعمائه ووجهائه، فيتلطّف بها ويعود بها إلى أبي جهل فيوبّخه أمامها ويعنّفه ويشتدّ عليه ثم يلتفت إليها ويقول لها أمام الجميع:

ـ الطميه يا بنت محمد، قبّحه الله من أحمق عديم المروءة والشهامة!!.

وتمرّ فاطمة بالبيت الحرام ذات يوم فإذا جماعة من أشراف قريش قد انتحوا جانب الكعبة يتشاورون بأمر محمد وإذا بعضهم يقول:

ـ والله ما نرى محمداً سيرجع عما هو فيه، ولئن صبرنا عليه ليؤلبنّ علينا عبيدنا وغلماننا ويغيّرن علينا نساءنا وأبناءنا فلا تبقى لنا فيه حيلة بعد ذلك.

ـ فماذا ترون؟.

  وينبري أبو جهل ويقول:

ـ لا أرى لكم إلا قتله.

ـ وكيف نأمن إن قتلناه غضبة بني هاشم وسيوف فرسانهم؟!.

ـ أخفوا السيوف في ثيابكم فإذا مرّ بكم فليضربه كل واحد منكم ضربة بسيفه فنشترك جميعاً في قتله!

وتسمع فاطمة هذا الكلام فيمتلئ قلبها خوفاً على أبيها، فتلازم المكان ولا تغادره وعيونها تترصّد الطريق حتى إذا رأت أباها مقبلاً من بعيد أسرعت إليه تنقل له ما سمعت من القوم وتحذّره من مكر قريش وكيدها:

ـ هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقداو عليك يا أبي أن لو مررت بهم قاموا إليك جميعاً فقتلوك بسيوفهم فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك!.

ـ اطمئني يا ابنتي فإن الله لم يجعل لهم إلى أبيك سبيلاً.

مضى النبي في طريقه إلى المسجد حتى إذا دخله ومرّ بالقوم الذين كانوا يأتمرون بقتله خفضوا أبصارهم مما لمحوا على وجهه من الهيبة والجلال وَأُنسوا ما كانوا قد اتفقوا عليه آنفاً، حتى إذا وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رؤوسهم أخذ بيده الشريفة حفنة من التراب نثرها عليهم وهو يقول:

ـ شاهت الوجوه … شاهت الوجوه.

ثم توجّه إلى الكعبة فصلّى لله تعالى على بعد خطوات منهم وفاطمة واقفة تراقبهم فما تحرّك منهم أحد ولا كأنهم رآه منهم أحد، فلما انتهى من صلاته ومناجاته أخذ بيد ابنته فاطمة ومضيا معاً إلى البيت!..

وما أشقّ على نفسها الطاهرة ذلك اليوم الذي ألفة فيه أباها ساجداً يصلّي عند الكعبة، وأبو جهل وصحب له من قريش جلوس هناك والعاص بن وائل السهمي والحارث بن قيس السهمي ينحران جزوراً.

ويلتفت أبو جهل وأمية بن خلف إلى بعض أصحابهما ويقولان:

ـ أيّكم يجيء بِسَلا جزور بني سهم فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟!

واستهوت الفكرة بعض القوم فنشط لها عقبة بن أبي معيط وعتبة وشيبة ابنا ربيعة فقاموا يحملون من الجزور السلا والفرث ويضعونه بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو ساجد ويصلّي لله تعالى.

وترى فاطمة ما يصنع هؤلاء بأبيها فتسرع إليه ولهة قلقة جزعة متألمة، تفيض دموعها على خديها فتبذل ما بوسعها وطاقتها لتزيح هذه الأوساخ عن كتفي أبيها.

ويرفع النبيّ الكريم والأب الرحيم رأسه ويرمق ابنته فاطمة بكلّ ما تشعّ به عيناه من الحبّ والحنان والرضى وبكل ما يفيض به قلبه من

 الاطمئنان والثبات والصبر ثم يأخذها بين يديه الطاهرتين ويضمّها إلى صدره الشريف وهو يقول:

ـ ما أسرع ما أصبحت أمّ أبيك يا فاطمة (4)!!.

وقبل أن ينسحب بها من ذلك المكان المقدس الذي دنّسه شرك قريش وسلوكها المشين رفع النبيّ يديه إلى السماء وهو يقول:

ـ اللهمّ عليك بأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وعليك اللهمّ بأمية ابن خلف والوليد بن عتبة وعليك بعقبة بن أبي معيط.. وعليك.. وعليك (5).

ولا تسل فاطمة بنت محمد يومئذ عن سرورها بذلك التاج الذي ألبسها أبوها والمقام الذي رفعها إليه، وبما استطاعت أن تبلغه في نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك اليوم الذي تواصلت فيه الروحان وتعانقت النفسان روح ونفس الأب الداعية الكبير وروح ونفس الابنة اليافعة التي تريد أن تكون لأبيها الأمّ الحانية والدرع المتين الواقي والحامي الحاضر في كل حدث، وما أكثر هذه الأحداث بعد أن خلا الجو لقريش بوفاة أبي طالب.

ـــــــــــــــ

(1) كان ذلك في السنة العاشرة للبعثة بعد الخروج من الشعب بقليل وفاطمة في حوالي الثامنة من عمرها.
(2) أخرجه البخاري 9 / 144 بروايتين عن أبي هريرة وروايتين عن عائشة ورواه عن البخاري ومسلم كل من: الشيباني في تيسير الوصول 3 / 256 وابن حجر العسقلاني في الإصابة 4 / 282 والصفوري في نزهة المجالس 2 / 196. وذكره الاربلي في كشف الغمة 1 / 360 عن أم سلمة، والمجلسي في بحار الأنوار 16 / 1 و 43 / 27 و 43 / 131، والبحراني في عوالم العلوم والمعارف والأحوال 11 / 114 و 11 / 175. وسيأتي مزيد من التفصيل حول هذا الحديث في حاشيةص 114.
(3) كنى رسول الله ابنته فاطمة بأم أبيها لهذا الموقف وأمثاله.
انظر: الاصابة في تمييز الصحابة 4 / 377 ـ الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 4 / 380 ـ مقاتل الطالبين ص ـ مناقب ابن شهرآشوب 3 / 132 ـ كشف الغمة 2 / 88 ـ بحار الأنوار 43 / 16، 19. 29 عوالم العلوم والمعارف 11 / 37.
(4) انظر حاشية ص 67.
(5) ذكره المحب الطبري في ذخائر العقبى ص 47 وقال أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود، وفيه: قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا جميعاً يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب.

لا مناص من الصبر

نبيّ الله وحده، يصدع بدعوته، ويجهر بالدين الجديد في ذلك المحيط المتلاطم من موجات الكفر والشرك والأديان المحرّفة والأهواء المتحكّمة!.

رسول الله وحده، يحمل مشعل النور في ذلك الظلام الدامس المخيّم على مكة.

محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده، لا سيف بيده ولا أنصار يدفعون عنه، الكيد والأذى ينصبّ عليه انصباباً من هؤلاء الحفاة الجفاة، الشداد الغلاظ، ولا حامي له ـ بعد الله سبحانه ـ سوى عمه أبي طالب عليه السلام الذي وقف يكافح دونه ويشدّ أزره ويدافع عنه بما أنعم الله عليه من مكانة وجاه عند قريش وما حباه الله من نعمة في بني هاشم، وكذلك الفتى المقدام الشجاع علي بن أبي طالب عليهما السلام ثم ما كان لدى زوجته خديجة بنت خويلد من المال الوافر الكثير الذي وضعته منذ اللحظة الأولى لزواجهما بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم وفلّكته التصرف به كلّه حينما يشاء، وحيثما يشاء، وكيفما يشاء.

ولم يتورع مشركو قريش وكفّارها أن يوجهوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كلّ ما حوته جعبتهم الدنسة من صنوف الأذى وما تفتّقت عنه عبقريتهم الحاقدة من أنواع الكيد ما واتتهم فرصة وما سنحت لهم بارقة!.

وشبّت فاطمة  الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خضمّ هذا البحر المتلاطم بأمواج الخير والشر وفي لجّة هذا المحيط الزاخر بالصراع المحتدم بين حلكة الظلام الدامس وأشعّة النور المتلألئة ووسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، الحبلى بالأحداث!.

شبّت فاطمة الزهراء وهي تسمع وترى وتحسّ بكل ما يجري حولها، ويطير قلبها شعاعاً كلما أحسّت بوطأة الشرك والعنت الشديد الذي يلقاه أبوها من أولئك الجاحدين المعاندين.

وحلّ المساء ذات يوم على فاطمة لتجد نفسها وأمها خديجة وأباها محمداً وعمه أبا طالب وابنه علياً وجميع بني هاشم وبني عبد المطلب بن عبد مناف معزولين عن الناس محصورين في شِعب أبي طالب (1)، حصاراً ضيّق عليهم معيشتهم وحبس عليهم أنفاسهم وهدّد حياتهم.

ولقد عاشوا في هذا الشِعب سنتين أو ثلاثاً يقاسون الجوع والحرمان والعزلة والهجران حتى أكلوا أوراق الشجر وأعشاب الأرض ويابس

 

الجلود وطريّ الحصى وسفّوا التراب، وطاردهم الخوف على أنفسهم وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان أبو طالب إذا نام رسول الله ونام الناس أتاه فنقله إلى مكان آخر يبيت فيه خوفاً على حياته من أجلاف قريش وعتاتها ويترك علياً مكانه لينام في فراشه.

وفاطمة الصغيرة ليست فقط ترى كل ذلك أمام ناظريها وإنما تعيشه واقعاً أليماً ترى نفسها مضطرّة فيه لتفعل كما يفعلون وتأكل مما يأكلون وتعيش بينهم ومعهم الحياة القاسية الصعبة التي يعيشون حتى انقضت سنوات ذلك الحصار الرهيب وانتهت أيام تلك المحنة الشديدة والبلاء العظيم.

لشدَّ ما كانت مرحلة مُرّة وفترة قاسية جداً في حياة الزهراء الصغيرة، حفرت ذكرياتها الأليمة في نفس وقلب وفؤاد فاطمة بعد أن تركت آثارها وبصماتها على جوفها ومعدتها.

لكن فاطمة الصغيرة تعلّمت فيما تعلّمته من تلك المرحلة أن لا مناص من الصبر وأن لا محيص عن التضحية مهما كانت الظروف والنتائج وأن لا فمتاح للفرج خير منهما وأن كلّ شيء على الاطلاق يهون ويرخص إذا كان في عين الله تعالى وفي سبيله سبحانه.

وينتهي ذلك الحصار العسير وتلك التجربة الصعبة وتخرج فاطمة من ذلك الامتحان وهي أكثر صلابة وأمضى عزماً وتصميماً وأرهف حسّاً

وشعوراً وأشد التصاقاً بأبيها الداعي إلى الله، وقد آلت على نفسها أن تمضي الشوط كلّه معه، تواسيه كلّما ألمّ به الحزن، وما أكثر ما كان يلمّ به، وتكافح عنه وتمسح بيدها الطاهرة وجهه الشريف وصدره وظهره وتبتسم له وترتمي على صدره وبين يديه لتزيح عنه الأسى والحزن والتعب.

ـــــــــــــــ

(1) كان ذلك في السنة السابعة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمر فاطمة يقارب الخامسة.

مآثر ومواهب

سار عليّ يسوق الركائب ومعه أيمن وأبو واقد يلوذان به ويطمئنان لحمايته. فلما قارب الركب ضجنان أدركه طلب قريش، ونظر عليّ فاذا هم ثمانية فرسان ملثمين معهم مولى لحرب بن أمية اسمه جناح.

والتفت عليّ إلى أيمن وأبي واقد وهمس إليهما:

ـ انتحيا بالإبل بهدوء واعقلاها على مهل وكونا خلفها ولا تباليا بشيء من أمر هؤلاء.

وفعل الرجلان ما أمرهما به عليّ وتقدم عليّ بهدوئه المعهود فأنزل النسوة عن الرواحل ثم استقبل القوم بسيفه:

قالوا:

ـ ظننت أنك ناج بالنسوة يا ابن أبي طالب؟ ارجع بهنّ لا أبالك!

ـ فإن لم أفعل؟

ـ لترجعنّ بهنّ راغماً إن أبيت ذلك أو لترجعنّ بهنّ طائعاً.

ـ ومن منكم الذي سيرغمني على ذلك أيها الجبناء؟!

غضب القوم من كلام عليّ وتقدّموا نحو المطايا ليثوّروها فحال عليّ بينهم وبينها، وعاجله جناح فأهوى له بالسيف فراغ علي من ضربته ثم بادره بضربة على عاتقه قدّته نصفين حتى وصل السيف إلى كتف فرسه، ثم شدّ على بقية القوم وهو على قدميه شدّة شغيم وهو يقول:

الزهراء على طريق الهجرة

ازداد أذى قريش لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحبه الذين آمنوا معه ونهجوا نهجه وهم يرونهم يكثرون عدداً ويزدادون ثباتاً رغم التعذيب والتنكيل. ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين تعذّبهم وتحبسهم وتكبّلهم بالقيود والأصفاد وتنزل بهم صنوف الأذى ضرباً وتجويعاً وتعطيشاً!.

وازدادت مؤامرات قريش على رسول الله خاصّة وأجمعوا أمرهم على قتله أو اغتياله. وسمعت فاطمة أباها ذات يوم يخبر أصحابه:

ـ رأيت الليلة في منامي أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخيل، وأراها ((طيبة)) (1) وإن الله قد جعل لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها قريشاً، فهاجروا إليها!

ويتسلّل المسلمون من مكّة جماعات وفرادى هاجرين ديارهم وأموالهم في مكة فارين بدينهم إلى ((طيبة)).

ويحسّ المشركون بما يجري حولهم ويأتمرون أن يثْبتوا رسول الله في مكة وأن لا يسمحوا له بالهجرة عنها ثم أجمعوا أمرهم أن يقتلوه واتّفقت كلمتهم أن ينتدبوا من كلّ قبيلة شاباً جلداً قوياً يحيطون بدار رسول الله فإذا خرج قتلوه جميعاً فيضيع دمه في القبائل ولا يقوى بنو هاشم على الأخذ بثأره من كل قبائل مكّة.

ويهاجر رسول الله إلى ((يثرب)) تاركاً علياً في فراشه والفواطم في بيوتهن، ويأمره أن يبقى في مكة ثلاثاً فيردّ الأمانات إلى أهلها والودائع إلى أصحابها ثم يهاجر بالفواطم والمستضعفين من المسلمين الذين لم يتمكنوا من الهجرة بعد.

وقفت الزهراء في بيت أبيها في مكّة تودّع المكان الذي عاشت فيه مع أمها خديجة بنت خويلد عليها السلام ومع أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد عشر عاماً مليئة بالأحداث حافلة بالمتاعب.

كيف تقوى على فراق هذا البيت وهو كل ما تبقّى لها من ذكريات عن أمّها الحبيبة، ولها في كل زاوية من زواياه موقف وفي كلّ ركن من أركانه كلام.

ترقرقت الدموع في عيني فاطمة وهي تلقي على البيت النظرة الأخيرة، وقد أحسّت أنه فراق لا لقاء بعهده، كم عزّ عليها فراق البيت الذي ولدت وشبّت فيه وتقلّبت على أرضه وتنعّمت من خلاله بين أحضان أمّها وأبيها.

انحدرت الدموع غزيرة من عيني فاطمة ثم لم تلبث أن بكت ثم تحوّل البكاء إلى نشيج متواصل وهي تطوق في أرجاء ذلك البيت العزيز!

ألا ما أَلأَم هؤلاء القوم!!

ألا ما أشدّ حمق هؤلاء المشركين من أهل مكة!!!.

وما أقسى قلوبهم وما أجرأهم على الله سبحانه!!.

ألا ما أشدّ غباءهم وأعمى بصائرهم وأسفه أحلامهم!!.

كمْ عميت عيونهم عن رؤية النور المشعّ من كلام النبوة؟!.

وكم صُمّت أسماعهم عن كل دلائل الحق وأمارات الصدق في تعاليم الرسالة الإلهية؟!.

لقد حجزتهم مراكزهم الاجتماعية ومصالحهم المادية الشخصية عن الهداية ومنعتهم من رؤية الحقيقة فمضوا في دروب الشرك وآثروا الظلام على النور، وسعوا جاهدين وعملوا جادّين وهم يريدون ليطفئوا نور الله!.

المطايا تسير بالفواطم الأربعة:

ـ فاطمة بنت محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ـ فاطمة بنت أسد بن هاشم زوجة أبي طالب عليهما السلام وهي أمّ علي وأمّ النبي ومربيته وراعيته بعد أمه آمنة بنت وهب.

ـ وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب.

ـ وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.

(والزبير وحمزة عَمّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم)

ومعهم أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الليثي.

عليّ بن أبي طالب وأبو واقد الليثي يسوقان المطايا بالفواطم يريدان اللحاق برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي غادر مكة قبل ثلاثة أيام مهاجراً إلى يثرب.

وراح أبو واقد يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً خوفاً من طلب قريش للركب الميمون، ويأتيه نداء عليّ من جنبه:

ـ رفقاً بالنسوة يا أبا واقد لا تجهدهنّ.

ـ الطلب خلفنا يا عليّ فدعنا نغذّ السير ليلاً كي لا يدركنا.

ـ لا عليك يا أبا واقد، لا تَخْشَ طلب قريش وارفق بالنسوة.

ـ يا عليّ إن النبيّ قد طعن كبرياء قريش وأفشل مخططاتها واستطاع الإفلات من أحابيلها وترك فرسانها وشبابها حول بيته مهزئين مغلوبين، وليسوا بتاركينا ننجو بالفواطم فيرتاح قلب رسول الله

فاسمع مني يا علي ودعنا نغذّ السير عَلْنا نفلت من طلب قريش فلا يدركنا.

ـ دع عنك الخوف من طلب قريش ما دمت معي يا أبا واقد وثق بوعد الله سبحانه ووعد رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم

تولّى عليٌّ أمر الرواحل بنفسه وجعل يسوق بالفواطم سوقاً رقيقاً وهو يشدو حادياً:

يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا

ليس إلا الله فارفع ظنّكا

ودبّت الطمأنينة في قلب أبي واقد، وسكنت نفوس الفواطم لحداء عليّ، ونظرت الزهراء إليه يمشي الهو مطمئناً هادئاً لا يقلقه شيء ولا يشغل باله أمر.

وراحت فاطمة تفكر في هذا الإيمان العميق والتسليم المطلق لمشيئة الباري سبحانه! إنه الجأش الرابط كالجبال الراسيات، وهل يستغرب ذلك من عليّ وهو منذ يومين أو ثلاث كان يبيت في فراش رسول الله طليب قريش في مكّة؟ وهو يعلم علم اليقين أنه ما من قبيلة في مكّة إلا ولها واحد من أفتى شبّانها وأقوى أبطالها واقف خلف الباب مصلتاً سيفه عاقداً عزمه مع بقية شبّان القبائل على قتل هذا الرجل الذي بات عليّ في فراشه راضياً مطمئناً، رابط الجأش ثابت الفؤاد وعقد العزم أن يكون فدى لذلك النبيّ العظيم. وها هو هو بالأمس واليوم.

ـــــــــــــــ

(1) طيبة ويثرب من أسماء المدينة المنورة التي هاجر إليها المسلمون من مكة.

الحوراء الإنسية

وانضمّت فاطمة إلى بيت أبيها المتواضع في دار هجرته، تلك الدار التي أصبحت المنطلق الجديد لوحي الله والمتنزّل الجديد لآيات القرآن الكريم.

وهناك عاشت فاطمة مرحلة جديدة فيها بعض الهدوء وبعض الاستقرار، حيث تغيّرت طبيعة الدعاة فتحولوا من جماعة مسملة إلى مجتمع مسلم، وتغيّرت طبيعة الدعوة فبينما كان محورها الأساسي تربية أفراد الجماعة الاسلامية وإعدادهم الإعداد الفردي القائم على تربية الفرد على التحمل والصبر على الاضطهاد والتعذيب والحرمان، أصبح محورها الأساسي بعد الهجرة تربية وإعداد هذا المجتمع المسلم إعداداً فكرياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً ليتمكن من تمثّل الدين الجديد وإقامة الدولة الاسلامية التي ستتمثل الاسلام كدين ورسالة وحضارة وتحمله إلى العالم، وتدافع عن المجتمع الاسلامي حيثما امتدّ هذا المجتمع وتعمل على إزاحة الطغاة والمستكبرين من طريقه، ورفع الحصار الجغرافي والاقتصادي

والسياسي عن هذا المجتمع الوليد، وتغيرّت طبيعة المواجهة مع الشرك والاستكبار فتحوّلت من الصبر الفردي على الأذى والحرمان والاضطهاد إلى تحمّل أعباء الجهاد وامتشاق الحسام وخوض المعارك الحاسمة دفاعاً وهجوماً لتوسيع رقعة هذا المجتمع جغرافياً وبشرياً وبسط نفوذه السياسي والفكري والعسكري على مجتمع الشرك والاستكبار.

وهكذا رافقت فاطمة أباها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يرسي في المدينة المنوّرة معالم أمّة جديدة ويرفع دعائم مجتمع جديد ويبني أركان دولة جديدة هي دولة الإسلام آخى فيها النبيّ بين الأنصار والأنصار وبين المهاجرين والمهاجرين ثم بين الأنصار والمهاجرين.

وشهدت فاطمة أباها وهو يختار عليّاً من بين جميع المسلمين أنصاراً ومهاجرين فيدّخره لنفسه ويتّخذه له أخاً ويجعله وزيره ونجيّه وموضع سره وكاتب وحيه!

وفي المدينة حظت فاطمة من أبيها ـ كما في مكة المكرمة ـ برعاية وعناية وحبّ لم يحظ به أحد من الناس سواها.

فكانت فاطمة إذا دخلت على أبيها قام لها فقبّلها وأجلسها في مجلسه وانصرف إليها بوجهه وقلبه واقبل عليها ليحديثها ويصغي لحديها فإذا قامت قام لقيامها ومشى معها وقبّلها وودعها بكلّ حبّه وحنانه!

وتغار عائشة بنت أبي بكر ـ وهي حديثة الزواج من رسول الله ـ من هذا الحبّ الكبير لها وهذا الودّ العظيم والتبجيل الخاص لها دون سواها،

فتستنكر منه هذه المعاملة الفريدة وتعترض على هذا التقبيل الكثير، فيجيبها النبيّ الكريم مبيّناً لها المكانة الرفيعة لابنته فاطمة وحقيقة تكوينها وشخصيتها وسبب تقبيلها فيقول:

ـ يا عائشة إنَّ ابنتي فاطمة حوراء إنسية فإذا قبّتها شممت منها رائحة الجنة (1).

ولا تفقه عائشة سرّ قول رسول الله ومغزاه لكنها لا تملك غير الصمت والسكوت.

ـــــــــــــــ

(1) ذخائر العقبى ص 36 ـ كشف الغمة 2 / 85.

أشواك في طريق العودة

استوت خديجة بنت خويلد عليها السلام في مجلسها وتناولت بين يديها الحانيتين وليدتها فاطمة الزهراء تبتسم لها وتلاعبها وتلاطفها، ثم أسندت ظهرها إلى جدار وضمّت فاطمة إلى صدرها ترضعها لِبانَ الطهر والعفاف والصدق والاستقامة.

عَلَتْ وجه خديجة مسحة من الحزن العميق والأسى البالغ وهي تراجع في ذهنها ما جرى بالأمس بين قريش الضالة الجاحدة وبين زوجها محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسول الناصح الأمين والنبيّ الداعي إلى ربه المشفق على قومه.

ها هو رسول الله يدلف إلى الكعبة المشرفة بإجلال كبير واحترام بالغ فما يرم بأحد إلا وتسبقه إليه بسمته المعهودة وتحيّته الودودة ونظرته المفعمة بالحب والرحمة، فُتُكْفُهْرُّ له وجوه القوم ويشيحون عنه وجهاً ويطوون دونه كشحاً، فلا يمنعه ذلك أن يستمر في طريقه غير عابئ بما يواجهونه به من التهجم والازدراء ولا يدفعه شيء من ذلك إلى أن يغيّر من عادته في البشاشة لهم والسلام عليهم.

حتى إذا وصل النبي إلى الكعبة المشرفة وقف يتأملها في خشوع وإجلال ثم شرع في مناجاة ربه والصلاة بين يديه سبحانه وتعالى، مشيحاً عما أحيطت به الكعبة من الأصنام والأوثان، والقوم يصوّبون إليه أبصارهم الدهشة مما يرون من الحركات العجيبة، ويسمعون التراتيل الغريبة فتنطلق ألسنتهم حداداً في الهزء به والسخرية منه، فإذا انسحب من بينهم وقد أدّى مراسيم الصلاة والمناجاة وغادر الكعبة مثلما دخلها مبتسماً محيّياً لم يَسْلَم من سفهاء قريش وعبيدها وصبيانها يرمونه بالحجارة ويزرعون في طريقه الأشواك.

وازداد الأسى في قلب خديجة حينما تذكّرت أبا لهب وزوجته حمالة الحطب وما كان رسول الله يلقى منهما من صنوف الأذى وأنواع الهزء والسخرية وسيل السباب والشتائم المقذعة حتى استحقّا من الله الجليل ذلك التقريع الكبير في قوله عز من قال:

بسم الله الرحمن الرحيم. (تبّت يدا أبي لهو وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد) سورة المسد.

تحركت خديجة في مجلسها وقد اغرورقت عيناها بالدموع لما يلقاه زوجها من قومه المشركين من جحود وتكذيب وما يواجهونه به صلى الله عليه وآله وسلم  من صدٍّ وتعذيب.

تناولت خديجة ابنتها فاطمة عن صدرها ورفعتها بين يديها الحانيتين وجعلت تحدّق في وجهها الصبوح وعينيها المشعّتين وتبثّها أشجانها وأحزانها:

ـ بنيّتي فاطمة، إنه لحدث كبير ذلك الذي يجري من حولك، وإنها لأيام صعبة جداً تلك التي يمر بها أبوك العظيم، وإنها والله لمفارقة كبرى وأمر غريب بينه وبين قومه، يدعوهم إلى التوحيد والهدى ويدعونه إلى الشرك والضلال، يريد لهم السعادة والخير فيقابلوه بالأذى والشر، يبغي لهم النجاة والخلاص فلا يرى منهم سوى الجحود والنكران … يناديهم ليدخلهم الفردوس والجنّة وهم مصرون على الصبر إلى النار والسعير.

وعندما تكبرين يا بنيّة، لا أدري كيف سيكون قد أصبح الموقف يومئذ بينه وبينهم، لكني واثقة يا فاطمة من انتصار الحق على الباطل وغلبة الخير على الشر وانهزام جحافل الشرك أمام جيوش التوحيد.

وخلال ذلك الصراع الطويل وإلى أن يتم النصر بإذن الله من المؤكد أنك ستكونين إلى جانب أبيك تنصرينه كما أنصره الآن وتواسينه كما أواسيه وتدفعين عنه ما استطعت كما أدفع عنه، أليس كذلك يا ابنتي؟!.

ونظرت كل منهما في عيني الأخرى، وبدا أنهما قد فهمتا بعضهما البعض، فضمّت خديجة ابنتها إليها في حنان وعانقتها بحبّ  وغمرت وجهها وعنقها وخديها بقبلات حارة حانية، ثم أعادتها إلى صدرها الدافئ وقد هدأت مشاعرهما، فعادت فاطمة إلى الرضاعة بلطف وبطء وشغف وكأنها تريد أن تحفظ ما سمعت من أمها، فلما شبعت نامت على صدر أمها الحنون، فحملتها خديجة عن صدرها برفق ووضعتها إلى جانبها.

عادت إلى خديجة وحدتها من جديد بعد أن غفت ابنتها فاطمة، وعادت إليها أفكارهما!.

وهل تدور أفكار خديجة إلا حول هذه الدعوة الإلهية التي اختير لها زوجها الكريم رائداً واختبرت لها أرض الجزيرة العربية محضناً، واختيرت مكة أم القرى لها منطلقاً إلى العام كله، لدفع الظلم عن المظلوم ورفع الحيف عن المحروم وزعزعة المستكبرين وترجيح كفة المستضعفين وكسر نير الاستعباد في الأرض.

تلك الرسالة العالمية التي تنطلق من توحيد المعبود لتصل إلى توحيد العباد، وتبدأ من العدالة الإلهية لتُرْسي معالم العدالة الإجتماعية، وتلجأ إلى الرحمن لتُشيع الرحمة في قلوب الناس وتجعلها أساس التعامل فيما بينهم، وترجم الشيطان لتتعلم رجم البغي والطغيان.

لكن المستكبرين من قريش أصحاب المال والجاه والمناصب وذوي النفوذ والمراكز الإجتماعية العالية وقفوا بكل قوّتهم وجبروتهم وعنفهم وصلفهم أمام هذه الرسالة الخالدة، وفي ظنّهم أن يمنعوا النور من الانتشار وأن يحجزوا الحق عن الإنتصار وأن يمسكوا الباطل عن الإنحدار.

وقفوا بكل السبل، سبل الأذى والإضطهاد والقتل والتعذيب والهزء والسخرية والإتّهام … إتّهام الداعي بالجنون ونسبته إلى السحر ووصمه بالكذب وهو لديهم العاقل الفطن الصادق الأمين.

وقفز إلى ذهن خديجة ذلك المشرك الفظ الجاهل الوقح، العاص بن وائل، الذي هزّه الفرح بموت ابنها الوليد عبد الله بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحجزه الحقد واللؤم أن يطيّب خاطر النبي الكريم ويعزيه بوفاة ابنه العزيز عبد الله، وبدل ذلك انطلق العاص بن وائل يسمّي محمد بن عبد الله بالأبتر ويشيع تلك الفرية حيثما حل وأينما وقف أو جلس حتى صارت حديث النوادي وفكاهة الملتقيات والتجمعات القرشية والمكية يؤذون بها رسول الله ولا يتورعون عن إسماعها له بتشفّ وشماتة.

فلما ولدت خديجة ابنتها الزهراء في ذلك اليوم الأغرّ وأعلن الله سبحانه لنبيه الكريم تلك البشارة العظيمة التي سيكون لها الأثر الخالد في مستقبل الإسلام والذكر الدائم للداعية العظيم وأهل بيته الكرام: ] بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر (1). فصل لربك وانحر. إن شانئك هو
الأبتر
[ سورة الكوثر.

عندئذ هبّ النبي الأعظم ينقل إلى زوجته خديجة تلك البشارة ويتلو عليها آيات المولى سبحانه ويقول لها:

ـ أبشري يا خديجة بالنور من النور

أبشري بالكوثر المبارك والذرّية الطيبة

أبشري ببنت جعلها الله أم أحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد أبيهم.

فذلك إذن هو الكوثر الدائم الذي أنعم به الباري عزَّ وجلَّ على نبيّه الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إنه النسل الكثير الباقي مدى الدهر لرسول الله، والذرّية الخالدة الدائمة لنبيّه الكريم من ابنته الطاهرة البتول فاطمة الزهراء عليها السلام، تلك الرضيعة الجميلة الراقدة إلى جانب خديجة!.

سُرِّيَ عن خديجة، وسُرَّ فؤادها بهذا الخاطر الجميل فلم تتمالك أن مالت إلى طفلتها الحبيبة تتأملها وتتفحّص وجهها المشرق الجميل وتستقرئ ملامحها الهادئة وتستوضحها عن ذلك النسل الكثير وتلك الذرّية الدائمة الطّاهرة، وأولئك الأئمة الأحد عشر العظام الذين سيقودون المسلمين في طريق الهداية والنور ويحملون لواء الرسالة الاسلامية بعد نبيّهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأبيهم المرتضى عليه السلام.

* * *

 تُرى هل كانت خديجة تدري من هو أبو هؤلاء الأئمة؟! هل كانت تعلم أن علياً بن أبي طالب، ذلك الفتى الهاشمي الذي ربّته في بيتها وفي حجرها وبين أحضانها وتقلّب هانئاً في نعيم حبها ورعايتها وحنانها سيكون زوج ابنتها الزهراء وسيكون أباً لأولئك الأئمة الأطهار؟!.

كان الفتى عليّ قد دلف لتوّه إلى بيت خديجة، وما أن ألقى التحية على الأم الحنون حتى توجّه بنظره إلى فاطمة يصوّب النظر اليها والبشر يعلو وجهه والبسمة ترتسم على شفتيه.

تحركت فاطمة في مضجعها وراحت تحاول أن تفتح عينيها النعستين وتجيلهما فيما حولها، فسارع عليٌّ إليها وحملها بين يديه وضمّها إلى صدره بحنان بالغ يلاطفها ويناغيها ويشدو لها بصوته العذب الرخيم وهي مصغية إليه كل الإصغاء، مستجيبة لملاطفته وملاعبته ومناغاته ومداعبته كلّ الإستجابة، وخديجة ترمق الاثنين ـ الحامل والمحمول معاً ـ وقلبها يخفق لهما بالحبّ العميق وفكرها ينطلق الى البعيد البعيد، إلى المستقبل الآتي تستقرئه وتستنبئه.

في هذه اللحظة دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا به أمام لوحة فنية رائعة حيّة.

لم تكن لوحةَ رسمٍ معَلَّقةً على جدار ولا نقشاً على خشب أو حجر

بل كانت لوحة حيّة ناطقة متحركة ماثلة أمامه تنبض بالحياة وتزيّن صفحة الوجود.

إنه عليّ الفتى اليافع واقف قرب خديجة وعلى صدره وفوق يديه الطفلة الرضيعة فاطمة الزهراء، يناغيها وعيونهما تشعّ بالنور والحنان والسعادة، وخديجة تتأملهما بإشراق وقد شرد فكرها إلى بعيد قريب ومستقبل آت وحلم كأنه واقع ماثل.

وكأن النبي الكريم قد استبطن حلم خديجة واستشفّ ما استتر في فكرها وما لمع في ذهنها، وقرأ بكلّ وضوح ما جال في خلدها وما دار في خاطرها.

وأحسّت خديجة بوجود الزوج الودود والنبيّ العظيم فهبّت تستقبله أجمل استقبال وترحّب به أحسن ترحيب وانطلق عليّ إليه يحيّيه ويسلّم  عليه وفاطمة لا تزال بين يديه وافتّر ثغر فاطمة بدورها، بابتسامة حلوة وكأنها تحيّي بها أباها العظيم.

ومال النبيّ إلى زوجته خديجة وهمس في أذنها قائلا:

ـ أيسرك يا خديجة أن يكون عليّ زوجاً لابنتك فاطمة؟!

وقع هذا السؤال الهامس من نفس خديجة موقعاً عظيماً، ورغم المفاجأة المذهلة انطلقت خديجة تجيب زوجها دون أدنى تردد:

ـ أما والذي بعثك بالحق نبيّاً ورسولاً، ما من شيء أحبّ إلى قلبي ولا أرضى لنفسي ـ بعد نجاح دعوتك يا رسول الله وانتشار دينك وسطوع نور رسالتك على الكون ـ ما من شيء بعد هذا أحبّ إلى قلبي ولا أرضى لنفسي من أن يزوّج الله عليّاً فاطمة! ليكن هذا الفتى الطاهر أباً لأولئك الأئمة الأطهار ـ الذين بشّرني بهم يا رسول الله! بشرتني بربك يا رسول الله وحبيبه، أو كائن ذلك؟!

ـ أبشري يا خديجة وطييب نفساً وقرّي عيناً فإن كلا الأمرين كائن بإذن الله تعالى، انتشار نور الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجاً حتى ليُظْهِرَ الله الإسلام على الأديان كلها، وزواج عليّ من فاطمة ليكون منهما الكوثر العظيم والنبع الدائم الجاري الذي وعدني ربي، ويكون أبناؤه الأئمة الأطهار حرّاساً لهذا الدين وقادة وهداة للمسلمين والمؤمنين من أمتي حتى تقوم الساعة ويقوم الناس لرب العالمين.

ـ الحمد لله رب العالمين، والله إنه لفضل من الله كبير يا رسول الله لا نستطيع شكره مهما قدّمنا.

ـ نعم والله يا خديجة إنه لفضل كبير من الله ونعمة كبرى علينا وعلى المسلمين، لكنّه في نفس الوقت امتحان لأمتي وابتلاء لها..

أتشكر هذه الأمة نعمة ربها أم تكفر بها وتجحدها!!.

ـ وكيف تستقبل أمتك هذه النعمة يا رسول الله؟!.

ـ كما قال ربي عز وجل في محكم التنزيل:

وقليل من عبادي الشكور ـ سبأ: 13.

ـ  لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم رضا بقضائك وصبراً على بلائك وشكراً على نعمائك.

* * *

ويحتدم الصراع في مكة بين رجل يحمل مشعل الهداية والنّور، وبين قوم ألفت عيونهم العتمة وعشقت عقولهم التيه والضلال فراحوا يوصدون عقولهم وقلوبهم أن تتسرّب لها أشعة الهدى ويصدون بأيديهم النور أن تتحسّسه أبصارهم أو تألفه عيونهم.

ولم يصرف كل ذلك محمداً عن الاستمرار في دعوته.. ومالت إليه قلوب بعض الناس فألقوا إليه زمام قلوبهم وعقولهم يصيغها كما يريد، فامتدّت إليهم أيدي  أولئك القوم بالبطش والأذى والتنكيل الشديد.

فلما رأى النبيّ ما يصيب أصحابه من البلاء قال لهم:

ـ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنها أرض صدق، وبها ملك لا يظلم عنده أحد، فابقوا فيها آمنين حتى يجعل الله لكم فرجاً.

في مساء الخامس من رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية جاءت رقيّة تودّع أباها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمها خديجة عليها السلام، وتوقّفت نظراتها عند أختها الصغرى فاطمة فحملتها بين ذراعيها وراحت تغمر وجهها وعنقها بقبلات الوداع وقد اختلطت الدموع وارتفعت الزفرات وعلا النشيج والبكاء ثم تركتهم ومضت خلف زوجها عثمان بن عفان والعيون مسمّرة عليها والقلوب معلّقة بها والأفئدة تكاد تنخلع من الصدور وتجري خلفها.. وغرقت فاطمة في الحزن واستغرقت في التفكير …

أين تمضي أختها الحبيبة رقيّة وزوجها عثمان؟! …

… تهاجر؟ لِمَ تهاجر؟ ما معنى الهجرة وما سببها؟!

أين تهاجر؟ إلى أرض الحبشة!! أين أرض الحبشة هذه، أبعيدة هي أم قريبة؟! تُرى أتعود أختها إليها أم لا تعود؟! تُرى أتراها بعد أيام أم أنها لن تراها أبداً بعد اليوم؟!.

ـــــــــــــــ

(1) أي الكثير الكثير من كل شيء من الذرية والأتباع ومن هذا الكثير نهر أو حوض في الجنة اسمه الكوثر من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.